نشاة و تطور علم النفس المرضي

 نشاة و تطور علم النفس المرضي 

علم النفس المرضي أو علم النفس الشواذ عامة هو العلم الذي يدرس السلوكيات غير الطبيعية أو الشاذة، فيشير مصطلح " علم النفس المرضي" بشكل عام إلى أنماط السلوك غير المتكيف و المشاكل السلوكية التي تتداخل مع بعض جوانب التكيف ، فما هي ابرز المراحل التاريخية التي ساعدت في نشاة و تطور علم النفس المرضي ؟

نشاة و تطور علم النفس المرضي
نشاة و تطور علم النفس المرضي 

نشاة و تطور علم النفس المرضي

علم النفس المرضي و ميتافيزيقا

اهتم الانسان منذ القدم بالظواهر غير الطبيعية للسلوك، فحاول الانسان إعطاء تفسيرات قصد فهم هذه السلوكيات الشاذة، مما دفعه إلى إعطاء تفسيرات ما ورائية، مرتبطة بالجن والسحر وعبادة الأوثان، فقد أشارت الكتابات القديمة إلى السلوك غير الطبيعي خاصة الصينيين والمصريين والعبرانيين واليونانيين غالبا ما يعزون هذا السلوك إلى شيطان أو رب استولى على شخص ما ،حيث كان يفترض أن "الحيازة" تنطوي على أرواح طيبة أو شريرة تعتمد عادة على أعراض الفرد المصاب.

علم النفس المرضي و العصر اليوناني

إلى حين عهد "أبقراط" في العصر اليوناني (460- 377 ق.م) حيث أنكر أبقراط أن الآلهة والشياطين تدخلوا في تطور الأمراض وأصر بدلا من ذلك على أن الاضطرابات العقلية مثل الأمراض الأخرى لها أسباب طبيعية وعلاجات مناسبة. كان يعتقد أن الدماغ هو الجهاز المركزي للنشاط الفكري وأن الاضطرابات العقلية ترجع إلى أمراض الدماغ.

درس الفيلسوف اليوناني "أفلاطون"  قبل الميلاد الأفراد الذين يعانون من اضطرابات عقلية ونظر إلى الظواهر النفسية على أنها ردود للكائن الحي كلها، مما يعكس حالتها الداخلية وشهواتها الطبيعية.

كتب الفيلسوف اليوناني الشهير "أرسطو" (384 - 322 قبل الميلاد)، الذي كان تلميذ أفلاطون على نطاق واسع عن الاضطرابات العقلية، من بين أكثر مساهماته في علم النفس وصفه للوعي حيث قال إنه يرى أن "توجيه التفكير " سوف يزيل الألم ويساعد على تحقيق المتعة.

استمر في عمل أبقراط من قبل بعض الأطباء اليونانيين والرومانيين اللاحقين ، على وجه الخصوص في الإسكندرية، مصر (التي أصبحت مركزا للثقافة اليونانية بعد تأسيسها في عام 332 قبل الميلاد من قبل الإسكندر الأكبر)، تطورت الممارسات الطبية إلى مستوى أعلى، والمعابد المخصصة لزحل كانت مصحة من الطراز الأول.

تم اعتبار البيئة المحيطة السارة ذات قيمة علاجية كبيرة للمرضى الذين يعانون من أمراض عقلية، والذين تم تزويدهم بأنشطة مستمرة بما في ذلك الحفلات والرقصات والمشي في حدائق المعبد والتجديف على طول نهر النيل والحفلات الموسيقية.

استخدم الأطباء في هذا الوقت أيضا مجموعة واسعة من الإجراءات العلاجية، بما في ذلك اتباع نظام غذائي وتدليك وعلاج مائي وجمباز وتعليم، بالإضافة إلى بعض الممارسات الأقل استحسانا مثل النزيف والتطهير والقيود.

ويعتبر جالینوس (130- 200) أحد الأطباء اليونانيين الأكثر سيطا والذي مارس نشاطه في روما ، على الرغم من أنه تحدث عن التقاليد الهيبوقراطية، إلا أنه قدم عددا من المساهمات الأصلية فيما يتعلق بتشريح الجهاز العصبي (للحيوانات)، حيث قسم أسباب الاضطرابات النفسية إلى فئات جسدية وعقلية.

علم النفس المرضي و الطب الصيني

كانت الصين واحدة من أوائل الحضارات المتقدمة التي تم فيها تقديم الطب والاهتمام بالاضطرابات النفسية، حتى هذا التاريخ المبكر (حوالي عام 2674 قبل الميلاد)، كان الطب الصيني يعتمد على الإيمان بالأسباب الطبيعية بدلا من الأسباب غير الطبيعية للأمراض.

على سبيل المثال، في مفهوم الين واليانغ، ينقسم الجسم البشري مثل الكون إلى قوى إيجابية وسلبية تكمل وتتناقض مع بعضها البعض ،فإذا كانت القوتان متوازنتين تكون النتيجة هي الصحة البدنية والعقلية؛ إذا لم تكن كذلك النتيجة هي المرض،  وهكذا ركزت العلاجات على استعادة التوازن .

علم النفس المرضي  و العصور الوسطى

خلال العصور الوسطى (من حوالي 500 إلى 1500 م)، انتقلت القواعد العلمية للطب اليوناني للبلدان الإسلامية في الشرق الأوسط.

وتم تأسيس أول مستشفى للأمراض العقلية في بغداد في 792؛ سرعان ما تبعه آخرون في دمشق وحلب. في هذه المستشفيات (البرمستانات) تلقى الأفراد الذين يعانون من اضطرابات عقلية علاج إنسانيا.

من أبرز الشخصيات في الطب "ابن سينا" (حوالي 980-1037) كما يطلق عليه "أمير الأطباء" وهو مؤلف كتاب القانون في الطب، وكانت أعماله الطبية الأكثر دراسة وعلى نطاق واسع.

في كتاباته أشار ابن سینا مرارا إلى الهستيريا والصرع وردود الفعل الهوسية والكآبة.

توضح دراسة حالة الأمير الشاب الذي يعاني من اضطراب عقلي (الأمير البقرة) مقاربة ابن سينا الفريدة في العلاج . خلال العصور الوسطى في أوروبا، كان البحث العلمي في السلوكيات الشاذة محدودا، وتميزت معاملة الأفراد الذين كانوا يعانون من اضطرابات نفسية في كثير من الأحيان بطقوس أو خرافات أكثر من محاولات فهم حالة الفرد.

علم النفس المرضي  و عصر النهضة

خلال الجزء الأول من عصر النهضة وفي فترة النشاط الثقافي والعلمي المزدهر (حوالي 1400-1700)، تراجعت وجهات النظر للاستحواذ الشيطان في تفسير الاضطرابات ،  فاعتقد الطبيب الألماني "يوهان وایر" وهو أول طبيب متخصص في الأمراض العقلية، أن العقل عرضة للمرض مثله مثل الجسم، وهو يعتبر الآن مؤسس الدراسة الحديثة لعلم النفس المرضي.

تم إنشاء المصحات للمصابين بأمراض عقلية تدريجية في بلدان أخرى مشابهة للتي كانت بالأندلس قبل الدخول الإسباني، بما في ذلك المكسيك (1566) وفرنسا (1641).

تم إنشاء ملجأ في موسكو في عام 1764، وتم بناء برج Lunatics الشهير في فيينا في عام 1784.

في الولايات المتحدة، قدم مستشفى بنسلفانيا في فيلادلفيا الذي تم الانتهاء منه بتوجيه من بنجامين فرانكلين في عام 1756 بعض الخلايا أو عنابر المرضى الذين يعانون من مرض عقلي.

المستشفى العام في ویلیامزبرغ فرجينيا، الذي تم إنشاؤه عام 1768 كان أول مستشفى في الولايات المتحدة مخصص حصريا للمرضى الذين يعانون من مرض عقلي.

مستشفى علم النفس المرضي


ومع ذلك لم يكن علاج المرضى الذين يعانون من مرض عقلي في الولايات المتحدة أفضل من العلاج المقدم من المؤسسات الأوروبية.

مع اقتراب عام 1800، بدأ علاج الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات عقلية في التحسن مرة أخرى.

أثناء الثورة الفرنسية، عين "فيليب بينيل" (1745-1826) كبير الأطباء هناك وقال إن المرضى يجب علاج أمراضهم بالتعاطف واللطف بدلا من السلاسل والضرب، قام بفك قيودهم وسمح لهم بالتنقل بحرية حول أرض المستشفى، واستبدل الأبراج المحصنة المظلمة بغرف مشمسة جيدة التهوية، وقدم الدعم ، وهنا ظهر المنحی الإنساني في علم النفس المرضي. في هذه الأثناء في انجلترا كان "ویلیام توك" (1732-1819) يجلب إصلاحات مماثلة في شمال إنجلترا.

في عام 1796 أسس "يورك ريتريت" منطقة ريفية يعيش فيها حوالي 30 مريضة عقلية كضيوف في منازل ريفية هادئة وعولجوا بمزيج من الراحة والكلام والصلاة والعمل اليدوي.

انتشرت المعاملة الأخلاقية في ظل أساليب بینیل و توك، وانتقلت أعمالهما إلى الولايات المتحدة على يد بنیامین راش ، وهو طبيب بارز في مستشفى بنسلفانيا .

حصر ممارسته للمرض العقلي، طور Rush مناهج إنسانية مبتكرة للعلاج.

بعد ذلك كانت دوروثيا ديكس (1802-1887) ناشطة في نيو إنجلاند وأصبحت بطلة للفقراء "المنسيين" الذين

تم إيداعهم في السجون والمؤسسات العقلية لعقود من الزمان خلال القرن التاسع عشر ،نتيجة لما شاهدته، قامت دیکس بحملة متحمسة بين عامي 1841 و1881 أثارت الناس والهيئات التشريعية لفعل شيء حيال المعاملة اللاإنسانية للأشخاص الذين يعانون من مرض عقلي، فمن خلال جهودها نمت حركة الصحة العقلية في أمريكا.

غير أنه تراجعت المعاملات الأخلاقية في القرن التاسع عشر وذلك بسبب تضاعف المستشفيات العقلية، وتطور حالات النقص الشديد في الأموال والموظفين، وانخفضت معدلات الشفاء، وأصبح الاكتظاظ في المستشفيات مشكلة كبيرة.

بحلول السنوات الأولى من القرن العشرين، توقفت حركة المعاملة الأخلاقية في كل من الولايات المتحدة وأوروبا، وأصبحت لا تقدم مستشفيات الأمراض العقلية العامة إلا رعاية صحية وعلاجات طبية غير فعالة وازداد اكتظاظها كل عام.

بينما كانت الحركة الأخلاقية تتراجع في أواخر القرن التاسع عشر، ظهر منظورین متعارضان وبدأ في التنافس على شد انتباه الأطباء: المنظور الجسدي، النظرة القائلة بأن الأداء النفسي غير الطبيعي له أسباب جسدية ، والمنظور النفسي المنشأ، الرأي القائل بأن الأسباب الرئيسية لأي أداء غير طبيعي هي نفسية.

أخذت هذه المنظورات في إزدهار کامل خلال القرن العشرين ،  وكان من بين أشهر رواد النظرة الجسدية الباحث الألماني البارز "إميل كريبيلين"،  في عام 1883 نشر کریبيلين كتابا مدرسيا مؤثرا بأن العوامل المادية مثل التعب هي المسؤولة عن الخلل الوظيفي العقلي.

شهد أواخر القرن التاسع عشر أيضا ظهور المنظور السيكولوجي، وهو الرأي القائل بأن الأسباب الرئيسية لوظائف غير الطبيعية غالبا ما تكون نفسية ، ومع ذلك، فإن المنظور النفسي لم يكتسب الكثير من الأهمية حتى أظهرت دراسات التنويم المغناطيسي إمكاناتها.

تم استخدام التنويم المغناطيسي للمساعدة في علاج الاضطرابات النفسية التي تعود إلى عام 1778، عندما أنشأ طبيب نمساوي يدعی "فريدريش أنتون میسمر" ) عيادة في باريس.

كما أن الدراسات التي وضعت على اضطراب الهيستيريا قد أعطت منحى جديد في علم النفس المرضي خاصة أعمال جان شاركوت  و "هيبوليت ماري بيرنهایم"  و "أمبرواز أوغست لیبولت" ، "جوزيف بروير"  و "سيغموند فرويد" ، هذا الأخير الذي أعطى منحى جديد لعلم النفس من جهة وعلم النفس المرضي من جهة أخرى من خلال المقاربة التحليلية للاضطرابات النفسية، ومع ذلك، فإن النهج التحليل النفسي لم يكن له تأثير يذكر على علاج المرضى الذين يعانون من اضطرابات شديدة في المستشفيات العقلية (1).

علم النفس المرضي  و القرن العشرين

في القرن العشرين 20 ولد مصطلح مصطلح علم النفس المرضي هو ترجمة للمصطلح اللاتيني psychopathologie

حيث استخدم هذا المصطلح أول مرة في ألمانيا من طرف"Emmingaus" للإشارة إلى الطب العقلي المهتم بالأفراد المرضى.

شهدت بداية القرن العشرين ولادة علم النفس المرضي كمنهج وتخصص مستقل، كان ميلاده في فرنسا أين بدأت أبحاث Théodule-Armand Ribot حول المنهجية الخاصة بدراسة المرض حيث أراد فهم اضطرابات الشخصية بهدف فهم التوظيف العادي ، و فيما بعد جاءت أعمال جانيه"Janet" تلميذ "ريبو" الذي درس بالكولاج الفرنسي عام (1895) .

"جاني" يعتبر من الأوائل الذين تحدثوا عن ما قبل الشعور في دراسته حول الهستيريا وقد سبق "فرويد" بسنوات حين فسر فقدان الذاكرة الهستيري بوجود ذكريات محفوظة في ما قبل الشعور

سيغموند فرويد طور هذه الفكرة لاحقا حيث تحدث عن كبت الذكريات الصادمة

أعمال شاركو "Charko" ساهمت بدورها في تطوير مجال البحث في علم النفس المرضي وقد برزت أعماله حول الهستيريا وعلاجها بالتنويم المغناطيسي .

جهود "فرويد" و "بروير" "Breuer" تواصلت للبحث أكثر في موضوع الهستيريا.

وقد قدم فروید کتاب (1901) علم نفس الحياة اليومية"psychologie de la viequotidienne ".

مفاهيم "فرويد" حول التفريغ والتداعي ونظريته التحليلية ساهمت في تطور علم النفس المرضي بشكل واضح.

يعتبر الألماني "جاسبرس K JASPERS" من الأوائل الذين تحدثوا عن علم النفس المرضي بالمعنى المعاصر سنة (1913) في كتابه علم النفس العام generale psychologie.

"جاسبرس" طبيب عقلي اهتم بالنزوغرافيا La nosographie(وصف الأعراض) حيث أراد دراسة الحالة النفسية للمريض

من خلال معاشه النفسي والسيرورات المسببة للاضطراب العقلي كما سعى إلى فهم كل العوامل التي تساعد على فهم المرض وفقا لمقاربته الفينومينولوجية (2). 

الخلاصة :

الآن في هذه الآونة الأخيرة أصبح المرض النفسي معروفا، وأصبح كل ممارس يعرف أسباب هذا المرض وذلك بفضل تطور علم النفس المرضي بعد خمسينيات القرن الماضي بجهود مجموعة كبيرة من العلماء والباحثين في علم النفس الطب النفسي وعلم الاعصاب.

المصادر و المراجع 

(1) . بن دربال مليكة . دروس في علم النفس المرضي . جامعة مولاي الطاهر سعيدة الجزائر . 2020.

(2) . سهام بوغندوسة . مطبوعة بيداغوجية في علم النفس المرضي . جامعة 20 اوت 1955 . الجزائر . 2017 .